الحب المغدور
البدر في كبد السماء منير،والكواكب عن الأبصار متوارية والنجوم بجمالها وزخرفتها بازغة مضيئة ليال الصيف الهادئة الخلابة ،وكل ليلة يحكي لنا أشباحها روايات وحكايات،هي أشباح لطيفة ذات مظهر حسن،ببلاغة الشعراء تنطق،بخبرة الأدباء تنصح،بعلم الفقهاء ترشد وبعباءة الأمراء تدفئ أجسادها،هي لا تختفي وراء الأسوار الوهمية والحواجز الشكلية،أو سواد الليالي الظلامية،بل تجلس معنا مجسدة نحن المهووسون بالحكايات والقصص،وروايات الزمن المقدس وخواطر القلب المفهرس. نحن الذين كلما أشرقت قصة حب فاشلة، تجد أحدنا بطلها المغوار، ورائدها الشهم الوعران، نحن الذين نود أن نصنع عالما مختلفا يسود فيه الحب والوئام، ونعيش فيه بأمن وسلام، نحن الذين ذهبت تضحياتنا سدى وهباء، ولم تضف أي جديد، لا من قريب أو بعيد، هي روايات صحت، وأحداثها عيشت وأثمانها دفعت . حكاية اليوم حكاية متميزة، يكفي أن من حضر لحكيها ، وللمرة الأولى أربعة أشباح، وجمهور عريض للسهر والسمر، وأخذ العبر. بدأت الأشباح تستلطف الجمهور الحاضر وتطلب منه الإمعان لأن وقت الحكي قد حان، بعد برهة صرت لا تسمع سوى همسات الليل الهادئ ونسمات الجو الدافئ،وحفيف الأشجار، وعرير الصرصار، ونعيق البوم،وصفير النسر، وهديل الحمام ، ودقات قلوبنا التي تكاد تتوقف ، فكل الأذان صاغية
و كل الأبصار ماعنة ، وكل العقول حاضرة ، أما أنا فكنت حاضر الجسم ، شارد الذهن ، مشغول البال ، مطعون الظهر، مهزوم الفؤاد ، مكسور الجناحين ،وأنا في هذا الحوار مع ذاتي، سمعت أذناي:"الحب المغدور"، لفت انتباهي هاتان الكلمتان – فتساءلت – قيل إنه عنوان قصة اليوم، فأخذت مكانا لي قريبا من تلك الأشباح وجلست
الشبح الأول: هي قصة حديثة العهد، قريبة المدى ، بطلها مغدور، مكلوم ، مطعون ، مألوم ، مسحور، مغموم ، مصدوم ، مهزوم ، مجؤور ومهجور.
بهذه المفردات لفت الشبح انتباه الحاضرين وحثهم على الترقب والانتظار ،أما أنا فبدأت أناملي ترتعش، فؤادي يخفق ، وعيناي تدمعان ، لا أعرف لماذا، لكن هناك شيء ما في داخلي ينبئني أن أمرا ما غير عادي سيحدث.
الشبح الثاني : هو شاب طموح ، بعيد الرؤى ، طيب القلب ، بريء الوجه ، حسن الخلق، لا يستحق الألم والعذاب الذي يعيشه، والظلم والإهانة التي لحقت به، تسلح بحسام النية، ركب صهوة جواد الصدق، فلقي حبه يشنق غدرا، فلم تنفعه لا نيته ولا صدقه ، ولا حتى حبه الذي صمد كثيرا وانهار فجأة ، في لحظة واحدة.
الشبح الثالث: هو الآن جالس معنا، قريب منا، مقلتاه تذرفان، فؤاده يتألم حزنا، ووجهه يستبشر خيرا، ونحن نقول له: لا تحمل هما إن الرب معك، أتدرون شيئا، أعتقد أني المعني بالأمر، فكل ما قيل ينطبق علي.
الشبح الرابع : كما أسلف خليلي ، هذا المجروح صديق لنا جميعا ، وجالس معنا ، إذن فستكون الحكاية ذات أهمية وتأثير في وجداننا إن هي قصت من طرف الذي عاشها وذاق مرارتها ، لذا سنناديه جميعا راجين منه أن يقبل طلبنا ويلبي رغبتنا ويلقننا درسا من خلال تجربته.
تقدم يا مومو وافتح لنا قلبك ، وسنصغي إليك ، ونساندك ولو بالصلوات.مومو : مساء الخير ، مساء العطر ، مساء الورد الأحمر ، مساء الحب وبخير الكلم الطيب أقول السلام عليكم . أصدقائي أنا لن أطلعكم بالقصة كاملة من ألفها إلى يائها لأني لن أستطيع ذلك حتى ولو منحتموني ثلاث ليال كاملة، وإنما سألتقط لكم بعض الأحداث الحساسة ، رغم أنها ستشعل في جسدي نيرانا لا تنطفئ أبدا، وسأوافيكم بأهم الاستنتاجات التي خلصت إليها، لعلها تفيدكم بشيء ما في حيلتكم اليومية ،خصوصا تلك المتعلقة بقلوبكم.
الحب يا ناس ليس بضاعة يباع ويشترى ، ليس حكرا على هذا أو ذاك ، فالحب إحساس عميق مجرد لا نلمسه ولا يمكنك معرفة شكله أو لونه أو طبيعة مكوناته، ولا يمكنك حتى تخيله أبدا إلا إذا عشته وأحسست به. الحب وردة حمراء يهديها جمال فصل الربيع إلى عشاق حكايات ألف ليلة وليلة الحب ابتسامة تنبعث من القلب وتظهر على الشفتين فتذيب الحزن وتثلج الصدر، الحب بستان من زهور الياسمين والريحان، الحب حصن يأوي إليه العشاق القادمين على الزواج، الحب بحث لا ينتهي بإيجاد المحبوبة ، لكن للأسف أنا لم يكتمل بحثي بإيجاد حبيبتي بل تفرعت شعابه ولم يلتئم جرحي بل تعمقت آلامه، وأضحيت تائها في خلاء الحب ، أحمل على كتفي عبئا ثقيلا يتمثل في حرفي الحاء والباء. أحببتها بصدق لكن لم يكن الصدق سدا منيعا حريصا على عدم تدفق هذا الحب، أحببتها وأحبتني.أحسست بها وأحست بي ، نظمت لها الشعر فاستمعت إلي وطلبت منها الاستمرار فأبت، وعلى شفير الموت كنت أحتضر.
كانت دائما تبادلني نفس الحب الذي ترسخ في قلبي نحوها، كنت أشعر بثقة كاملة أن حبنا أقوى وأصلب من الفولاذ ولا يمكن للحديد أن يفصل بيننا، لكن في بعض الأحيان كانت تساورني شكوك في حبها ، وذات يوم أذكر أني دعوتها ، فسألتها هل حقا تحبينني؟ فأخذت تنتحب وتقول : لو لم أكن أحبك، لماذا أنا معك الآن ، لماذا أهدر وقتي معك وبدأت تردد بأعلى صوتها أحبك.أحبك.أحبك...وعيناها الساحرتان تدمعان، لم أتمالك نفسي وأخذت أمسح دموعها برقة وليونة وأقول لها سامحيني حبيبتي، وتأكدت أنها بالفعل تحبني وأقسمت لها أني لن أسألها هذا السؤال مرة أخرى. كنا كلما جمعتنا الأوقات معا ، إلا وتأخذ الأحلام منا جله كنا نبتعد عن التاريخ الذي نعيشه بسنين ، نفكر بالزواج، بالأولاد،عددهم وأسماؤهم ونحن لم نتجاوز السابعة عشر، كنا وكان الحب يجمعنا ، والعدو يأسرنا ، والرب يحمينا ، والحلم ينير لنا طريق الحرية من جديد ، فنمشي والسيل شائك بالأعداء ، ومع ذلك كان حبنا الأقوى ، هي أيام خلت ومضت ، لكنها ظلت راسخة في ذهني بحلوها ومرها.
مر حولان على حبنا ، اعتقدت أن هذا الحب سيقوى ويعقل ويسلك الطريق الصواب ويسرع في خطاه وبحذر حتى يصل بأمان، لكن حصل ما لم يكن في الحسبان ،بل هذا الحب بدأ يضعف وتاه في الطريق الخطأ، وبدأت خطاه تدب هنا وهناك بعيدا عن فؤادي المشتعل بنار الحب. تهدمت الأحلام ومقلتاي بالزلال تدمع على فراق هب قبل أوانه، فقد كنت أعتقد أن الموت وحده قادر على أن يفصل بيننا ، لأفاجأ بشظية دهر صغيرة تضرب الحب الكبير بعرض الحائط. تخلت عني حبيبتي في وضح النهار، عندما تعلق القلب بها، وسرى دمها في عروقي، فكيف لي العيش بدونها؟سخرت من حبي، واستهزأت من عشقي، وبمشاعري تلاعبت وأنكرت أنها يوما قالت لي أحبك، انكوى قلبي بالنار عندما سمعت إنكارها الخبيث أمام الملأ، بحثت عن السبب لكن وللأسف لم أجد له سبيلا، ربما قد أكون ارتكبت بعض الأخطاء، لكن لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى الفراق وهذا الألم التعيس الذي أعيشه. هي سرطان أصاب قلبي ، واستولى على كبدي، وانتشر في كامل أعضائي والزمن وحده قادر على أن يبرئني، سأشفى منه لا محالة، لكن لو كنت أعرف خاتمتي ما بدأت، ولو كنت أعرف أن البحر عميق ما أبحرت ، حتما سأجعل مني تنينا ضخما يصارع أمواج البحر ويلتهم كل سرطاناته، حينها سوف أنادي بأعلى صوت:
إن شئت حبها يا ابن الزهراء فكن *** في حبها مجنونا شديد الحذر
فلا بد أن يقـع المحب في فـخ *** ولو بنـى بيته في دارة القمر
هذا ما جنيته من هذا الحب ، الخداع، المكر، الألم ، الوقوع في فخ شراكه نسجت من كذب وخذلان ، لكن ومع ذلك فأعتبر أن تجربتي المرة كانت ناتجة عن سوء حظ وتفاهم ، سأنسى التي علمتني الكفاح والصبر، وسأحب من جديد لأن الحب كائن في قلوبنا ، وثقتي في الحب لا زالت كما كانت. أسفي الوحيد على التي أحبها قلبي لأنها – والله – لن تجد أحدا يحبها الحب الذي أحسست به نحوها ومنحتها إياه، وأتمنى صادقا أن تجد الذي يليق بها، تحبه ويحبها، أما أنتم فأحسنوا الاختيار عند دخول الحب فأبوابه شتى متشابهة ومختلفة.
صفق الحاضرون وأثنى البعض علي ولأول مرة أرى الدموع في عيون الأشباح، ضمني الأشباح إليهم وتنبؤا لي بمستقبل أفضل، وزالت عني الأحزان والكرب، فإلى اللقاء مع حكاية أخرى.
[b]